الدكتور قصي كرم يكتب للدانة نيوز: في تركيا.. كانت لي أيام (الجزء الثالث)

0

 

وعندما قررنا الذهاب إلى مدينة بورصة أول عاصمة للحضارة العثمانية في بلاد الأناضول، ركبنا العبارة من اسطنبول قاطعين مضيق البوسفور البحري الى منطقة يلوفا. وكان البرد شديدا ذلك اليوم والمطر الخفيف ينهمل فقررت الخروج الى الخارج لاستنشاق بعض الهواء وللحصول على بعض السكينة لأن العبارة البحرية كانت مكتظة بالركاب. كانت طيور النورس ترافق العبارة لأنها قد آلفت الركاب والمسافرين على مر السنوات. وكانت هناك إمراة تركية تقوم بإطعامهم وكانت ترمي اليهم بقايا الخبز من الفطيرة التي كانت بيدها. وشاهدت كذلك طفلا واقفا على الدرج الجانبي للعبارة يقوم برمي قطع البرتقال الذي اعطاه اياه والده اليهم مأثرا بذلك طيور النورس على نفسه. شعرت بنسمات الهواء التركي الباردة النظيفة المعقمة من اي مصدر للتلوث وسبحت بخيالي وتخيلت سفن الجنود العثمانيين وهم يشقون ذلك البحر فاتحين الأفق البعيد وتخيلت سفن الإغريق الخشبية الأنيقة في صنعها تمخر عباب البحر اللجي.

وفي بورصة زرنا أولو جامع والذي يعني باللغة العربية “الجامع الكبير”، ويعتبر أكبر مسجد في مدينة بورصة ويقع في الطرف الغربي من شارع أتاتورك في وسط المدينة.  كان بنيان المسجد مستطيل الشكل، وتقع على سقفه عشرين قبة مرتبة  على أربع أسطر. يعتبر هذا المسجد معلما للهندسة المعمارية العثمانية، حيث تجد على جدرانه من الداخل نقوش أثرية باللغة العربية رسمت على يد أشهر الخطاطين العثمانيين. وفي الأيام التالية زرنا الشجرة المعمرة الذي يناهز عمرها 600 عام وشربنا الشاي تحت ظلها وشعرنا بنقاوة هوائها وشعرت حينها أني على قيد الحياة. ثم عرجنا إلى جبل أولوداغ او الجبل العالي اعلى جبل في منطقة مرمرة الذي يبلغ ارتفاعه 2543 مترا وشعرت وكأني على قمة العالم. ثم تناولنا وجبة غداء في الكوخ الخشبي المخصص للسواح وكانت الوجبة تتكون من لحم البقر المتبل بالبهارات التركية والمشوي على الفحم وكان من ألذ ما تذوقته في حياتي. ثم تسامرنا مع الأهل ولعبت مع الأطفال واطعمنا الطيور من فتات الخبز سويا وشعرت بأني طفلا قد ولدت منذ جديد.

وزرنا كذلك القرية العثمانية او قرية “جمال كزك” على سفح جبل اولوداغ والتي تقع ضمن حدود محافظة يلدرم (الصاعقة) والتي أسسها العثمانيون منذ اكثر من 600 عام. كانت القرية مبنية على الطراز العثماني القديم وقد حافظت بلدية بورصة على هيئة منازلها التي بلغ عددها تقريبا 270 منزلا. كان نساء القرية جالسون في اكشاكهم البسيطة عند مدخل القرية يبيعون الخبز والمربى والمنسوجات الصوفية والتحف اليدوية الى السائحين. ثم خيم علينا الليل في هذه القرية وصليت المغرب والعشاء جمعا وقصرا في مسجدها الصغير والذي غطى خشوع المصلين فيه القرية بأكملها اشعرني بروحانية المحراب وقدسيته. ثم سلكنا الطريق المرصوف بالحجارة وكانت تحيطنا البيوت الخشبية ذات الألوان الزاهية ودخلنا مقهى القرية العريق الذي يجتمع فيه الشيوخ وكبار السن من سكان القرية يتسامرون ويقصون قصص الأمس وماضيهم الجميل وجلسنا معهم وشربنا الشاي الدافئ.

لم اكن اعلم قبل ذهابي الى تركيا بأن العاصمة اسطنبول يقع جزء منها في الجانب الآسيوي ويقع الجزء الآخر في الجانب الأوروبي، ولم اكن اعلم بأنه حين بنى الإمبراطور الروماني قسطنطين مدينة القسطنطينية التي حملت اسمه اعواما عديدة، أمر قسطنطين بأن يتم بنائها على سبعة تلال حتى تشابه في تصميمها التلال السبعة لمدينته الحبيبة روما العظيمة. ولم أكن اعلم بأن اسطنبول هي اكبر مدينة في تركيا حيث يقدر عدد سكانها ب13 مليون نسمة وكانت في عام 1502م تعد من اكثر المدن ازدحاما في العالم. وتعلمت كذلك من رحلاتي العديدة إليها أنه خلال فترة حكم العثمانيين كان في اسطنبول قرابة 1,400 حمام عمومي في المدينة. ولم أكن اعلم كذلك بأن الخلافة العثمانية التي امتدت زهاء 800 عام سميت بهذا الاسم نسبة الى مؤسسها عثمان بن ارطغرل. ولكن بعد ان زرت ذلك الجانب من العالم مرات عديدة ايقنت انه آسيوي في طباعه وسجيته وأوروبي في هيئته ونظامه، كما أدركت ضآلة وصغر ما يملكه الإنسان من شغف بالتاريخ اذا لم يكن في جعبته كتاب او كتابين عن حضارة الأناضول…عن القسطنطينية.. عن قبر الصحابي الشهير وحامل لواء محمد عليه الصلاة والسام أبو أيوب الأنصاري الذي استشهد في أرض المعركة بالقرب مدينة اسطنبول.

شعرت بجهلي عن الكثير من المعلومات التي كان يجب علي ان اعرفها لأني من عشاق التاريخ القديم. فقررت انه آن الأوان ان اغترف غرفة من نهر حضارة الأناضول السرمدي الذي يسلب لب كل من يقدم الى تلك البلاد من عربي وعجمي ان كان ذلك الزائر ذو عقلية متحررة لا يحكم على وضع الدولة جراء موقف محرج قد تعرض له اثناء زيارته لتركيا ويقوم بوضعها في قائمة الدول الممنوع زيارتها.

ان ليلة يقضيها إنسان قد اضناه الدهر ولعبت به صروف القدر بين احضان اسطنبول حيث نسمات نيسان الباردة وفنجان شاي دافئ ونغمات الموسيقى التركية كفيلة بتجديد شاعريته وبث الطمأنينة في نفسه. اسطنبول التي كتب عنها المؤرخون ورسم سحرها الفنانون قد تغيرت عن من كانت عليه في السابق، فالحياة المدنية والمباني الحضرية اصبحت الغطاء الذي يغطي جوهرها التاريخي. لكن اكاد أن اجزم بأن هواءها لم يتغير منذ أن وضعت اول لبنة لأول صرح قد شيد على ارضها الطيبة. فحينما تستنشق هواؤها فكأنك تستنشق تاريخ عريق قد مر على هذه المدينة، وحين ما تنظر الى مبانيها القديمة، سوف تقرأ سجل تاريخي أزلي سرد آهات ودماء شعبها منذ قديم القدم. كيف لا نشعر بكل ذلك الجمال وقد قال عنها نابليون بونابارت ذات يوم مادحا رونقها وسحرها “لو خيرت في وضع عاصمة للعالم كله لاخترت اسطنبول عاصمة له”.

ثم مع مرور الزمن ازداد شغفي إلى زيارة تركيا وتوالت رحلاتي الى موطن الجمال ..الى موطن التراث ..الى الأرض التي كتب بها جزء كبير من تاريخ العالم.. زرت تركيا مرات عديدة مع الأسرة الكريمة.. ومع اصدقاء الطفولة كما نظمنا رحلات لزملاء العمل. وبالفعل تركيا كانت ومازالت سحر الشرق وقلبها النابض بالحياة وما زال هناك الكثير من الأماكن التاريخية التي يجب علي ان ازورها في المستقبل لأرتوي من انهر تاريخ هذه البلاد العذبة. وما زال هناك الكثير من المتاحف والمزارات والمعارض والأزقة والشرفات.

تركيا أيها العشق الجميل ..سوف اشتاق إليك دائما.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.