الدكتور قصي كرم يكتب سلسلة عن بلاد الاناضول .. في تركيا.. كانت لي ايام…الجزء الأول

0

اعوام عديدة والتردد في السفر إلى تركيا كان يروادني !! وكنت كلما اسأل الأهل والأصحاب عن البلاد التركية هل هي دولة مناسبة للسياحة أم لا؟ ..كنت احصل على اجابات متناقضة، بين قبول ورفض وبين اعجاب واحباط…مما زاد الأمر تعقيدا..لم أشأ السفرالى بلاد سوف أصاب بالإحباط عند زيارتها، بالأخص وأنا في أمس الحاجة إلى أخذ قسطا من الراحة من عناء العمل والقيام بالتجارب العلمية لقياس معدلات التلوث البحري أو الذهاب الى ساحل البحر لتعليم بعض الطلبة من الكليات والجامعات عن التنوع الأحيائي البحري الجميل في دولة الكويت. ولكن تبددت تلك الحيرة حينما دعتني والدتي العزيزة إلى الذهاب مع الأسرة إلى تركيا في شهر ابريل من عام 2013، ولا اعلم لماذا قبلت حينها ذلك العرض رغم كل ذلك التردد الذي عانيته على مر السنوات السايقة ،  فكانت تلك الرحلة هي نقطة التحول بالنسبة لي من انسان حائر في السفر الى انسان اصبح تاريخ الأمم الغابرة من اشد اهتماماته وتطلعاته.

قبل ان اسافر الى تركيا كانت لدي اطلاعات قليلة ومعلومات بسطية عن حضارة بلاد الأناضول وعن الشعوب التي استوطنتها قبل التاريخ، اضف الى ذلك ما كان يعرفه اغلبية البشر عن تركيا. على سبيل المثال رئيس الجمهورية التركية السابق مصطفى كمال أتاتورك والمغني الشهير ابراهيم تاتليسيس، أضف إلى ذلك الشاورما التركية الأصلية وكباب إسكندر الشهير. ولكن بعد الذهاب الى تلك البلاد التي كانت مهداً لأهم حضارات العالم ومسرحا للنزاعات بين الإمبراطوريات، اصبحت ملماً بالعديد من الشخصيات التركية البارزة التي صنعت تاريخ تلك البلاد العريق مثل السلطان محمد، فاتح الإستانة الذي اصابته دعوة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام عن فتح المسلمين القسطنطينية حين ذكر في الحديث النبوي الشريف :” لتفتحن القسطنطينية ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش”. وعلمت كذلك بأن الذي نال جائزة نوبل للأدب لعام 2006 كان الأديب التركي اورهان باموك عن اعماله الأدبية العديدة مثل رواية متحف البراءة والقلعة البيضاء. كما علمت ان شيخ المطربين الأتراك أورهان قينجيباي الملقب بأورهان بابا وتعني أب المغنيين الأتراك وعرابهم حين غنى رائعته الشهيرة “بير تسلي فار” والتي تعني: “اعطني مقدار من العزاء” مناجيا بذلك حبيبته ناعيا بعدها وفراقها عنه. كما ادركت أن السلطان العثماني الذي دك جيوش البلغار رافعا راية الإسلام كان السلطان بايزيد يلديرم الملقب ب”الصاعقة”. وكان سبب تسميته بذلك هو انقضاضه كالصاعقة على علاء الدين أمير القرمان الواقعة في جنوب بلاد الأناضول. وامثلة عديدة اخرى عن اعمدة تلك البلاد الذين صنعوا تاريخها ونسجوا خيوط حضارتها على مر الأزمنة والعصور الغابرة.

كنت في التسعينيات من العقد المنصرم طالبا جامعيا في كندا اسعى للحصول على درجة البكالوريوس في العلوم البيئية البحرية،  وفي صيف عام 1997 ذهبت الى التبضع مع بعض الأصدقاء من الطلاب الماليزيين وكعادتي حينما اذهب الى السوق يشدني منظر الكتب على أرففها عندما امر بجانب المكتبة في كل مجمع تجاري. وانا اقلب صفحات بعض الروايات والكتب التي كانت في القسم الذي عليه خصومات لأننا كنا طلبة نعيل انفسنا حينها وكانت النقود شحيحة. انتبهت الى رواية للكاتب العالمي ويلبر سميث تحت عنوان “آلهة النهر” وكانت تلك الرواية من اجمل الروايات التي قرأتها في حياتي عن الحضارة الفرعونية القديمة تتحدث عن اجتياح جحافل جنود الهكسوس او كما يسميهم العرب “الملوك الرعاة” ارض مصر الطيبة وعن ونزوح شعبها مغمورين بالذل الى جنوب مصر ومن ثم اعادة ترتيب الجيش والإستعداد لطرد الهكسوس من مصر وتطهير البلاد من فسادهم وعبثهم. وكيف قاسى قائد الجيش تانيس فراق حبيبته وعشقه الأبدي الفاتنة لوستريس وكيف نسق الحكيم تايتا لقاؤهم ليطفىء بحكمته حنينهم واشتياقهم لبعض.

ثم تلى تلك الرواية روايات عديدة عن الفراعنة وعن مصر القديمة الى ان وضعت يدي على رواية كانت هي المقدمة الى الشغف التاريخي بحضارة الأناضول العريقة. انتبهت رواية للكاتب وعالم الآثار الفرنسي كريستيان جاك تحت عنوان “رمسيس: ابن النور – الجزء الأول” وكانت رواية مكونة من خمسة أجزاء. كنت اترقب نزول كل جزء منها خلال السنوات التي قضيتها في الجامعة. وكان احد اجزاء تلك الرواية جزء يتحدث عن اقتران فرعون مصر رمسيس الثاني بأحد بنات ملك بلاد الأناضول هاتاسولي تنفيذا وتطبيقا لأحد شروط اول معاهدة سلام بالتاريخ بين المصريين والحيثيين في عام 1258 قبل ميلاد سيدنا المسيح. فكانت تلك الرواية بمثابة البذرة لشجرة امتدت فروعها وجذورها في شتى انحاء جسدي لتزيدني شغفا على شغف بحب حضارة بلاد الأناضول الجميلة.

 ثم ازداد شوقي للذهاب الى تركيا حينما زارني في كندا عام 1997 احد الاقرباء وتحدثت معي عن زيارتها الآخيرة الى تركيا وكيف كان لتلك البلاد سحر يذهب عقول وقلوب السائحين. والى يومنا هذا ما زلت اتذكر الجملة المختصرة التي وصفت بها تركيا عندما سألتها انا عنها طبيعة تلك البلاد السياحية فكتفت ولم تزد في كلامها حين قالت :”تركيا بلاد جميلة لا يكفيك شهرا واحدا لزيارة كل معالمها السياحية واماكنها التاريخية”. نعم..تركيا الجمال ومهد لحضارات العالم وكم تشربت وذاقت ارضها دماء الأمم غابرة من حيثيين واغريق ورومان وترك وعرب.

يتبع

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.